آسيا مهد الحضارات
(من قبل التاريخ حتى عام 1350م)
جنوب غربي آسيا: دلت التنقيبات الأثرية على أن البشر استوطنوا آسيا منذ العصر الحجري. ويؤكد أكثر العلماء أن أول الحضارات التي عرفها الإنسان ولدت وازدهرت في المنطقة بين بحر الخزر (قزوين) والبحر الأسود والخليج العربي والمناطق الشرقية من البحر المتوسط. ولعل أقدم الحضارات هي التي نشأت في المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات (بلاد الرافدين) وفي شمالي سورية وقد عاش الإنسان الذي قطن هذه المناطق في العصر الحجري (منذ نحو 10000 سنة) على الصيد وجمع الثمار، وشرع بالاستقرار في تجمعات سكنية على ضفاف الأنهار وعلى امتداد الأودية الخصبة ولاسيما وديان أنهر الفرات ودجلة والعاصي والليطاني والأردن. ومع بداية العصر الحجري الحديث (الألف الثامن ق.م) بدأ الإنسان يستقر في هذه المناطق وبلاد الشام في قرى زراعية رعوية بدأت معها صناعة الفخار والآجر، ونحت التماثيل الطينية، وتدجين بعض الحيوانات. وتؤكد الدراسات وجود صلة وثيقة بين سكان المجتمعات الزراعية والمدنية الأولى في المشرق العربي القديم كله، وتحتل بلاد الرافدين بينها موقعاً مرموقاً ومتصلاً في تاريخ الحضارة. فمنذ الألف الرابع ق.م ضهرت في هذه المنطقة أولى الجماعات المتحضرة، وهي التي يطلق عليها اسم حضارة تل العُبيد في جنوبي العراق، وقد ترك ذلك المجتمع بصماته بما خلّفه من مفردات كثيرة دخلت اللغة السومرية مع جهل الباحثين اسم ذلك الشعب ولغته. وإلى الألف الرابع أيضاً تعود بعض الابتكارات المهمة التي كان لها أثرها في تطور الحضارات الإنسانية كافة مثل دولاب الخزاف وقالب اللبن وصهر المعادن. كما شجع تقدم الزراعة على تشييد الأهْراء للغلال، وأدى تكاثف السكان وانتشار الصناعات إلى ظهور المدن الدول، أقدمها مدينة سومر التي ينسب إليها السومريون في جنوبي العراق (نحو سنة 3500ق.م)، في حين عرفت المناطق الوسطى من العراق باسم «أكد» ثم باسم بابل بعد ذلك.
مارس سكان هذه المدن وما حولها أقدم نشاط زراعي عرفه العالم وبوسائل بدائية بسيطة، وكانت لهم دراية بتصريف المياه وشق الأقنية، ولهم لغة مكتوبة وحكومة مركزية. وعند بداية الألف الثالث خضعت مدن سومر لأول أسرة حاكمة عرفها التاريخ، وحاضرتها مدينة أور، وكان الملك يلقب «لوغال» lugal (العظيم)، ويعد لوغال زاغيزي Zagezzi أول حاكم فعلي، لأكبر امبراطورية معاصرة. ولم يطل الأمد بهذه الامبراطورية أكثر من ربع قرن، تمكن بعدها ملك أكد الأموري شَروكين (صرغون) من بسط نفوذه على كامل أراضي الدولة وصبغها بالصبغة الأكدية ثقافة ولغة. وغدت الأكدية لغة هذا التجمع مثلما غدت الإبلوية (لغة إبلا) لغة المجتمع الذي عاصره في شمالي سورية. واستخدم كلا المجتمعين الكتابة المسمارية السومرية.
وبعد قرن حافل بالأحداث ظهرت على مسرح التاريخ سلالة جديدة في أور (نحو سنة 2111-1950ق.م) أسسها أورنامو (2111-2094ق.م) الذي بسط نفوذه على كامل المنطقة، واشتهر بتشريعه ولكن مملكة أور هذه لم تصمد بعد نحو قرن أمام ضغط الأموريين الذين أقاموا مملكة بابل (1894-1595ق.م) التي بلغت ذروة مجدها في عهد حمورابي (1792-1750ق.م). وقد دام حكم هذه الأسرة نحو ثلاثة قرون إلى أن تغلب عليها الكاشيون القادمون من شمالي الهضبة الإيرانية، في حين اختفى السومريون القدامى من صفحات التاريخ وظلت إنجازاتهم ميراثاً مهماً للحضارات المتأخرة.
ثمة شعوب أو دول أخرى أسهمت في تطور ثقافات جنوب غربي آسيا، فالحثيون الذين ظهروا في أواسط الأناضول، أقاموا امبراطورية شاسعة عاصمتها «حاتوشا» (نحو 2000-1200ق.م)، وسيطروا على شمالي سورية، وغزوا بابل نحو سنة 1530ق.م، وبلغوا أوج توسعهم في عهد شوبيلوليوما (1382-1341)، ثم انقسموا إلى ممالك حثية سورية صغيرة ذابت في خاتمة المطاف في الامبراطورية الآشورية.
ينتسب الآشوريون إلى مدينة آشور (قرب الموصل) التي عاصرت مملكة أور السومرية. وكان ظهورها مملكة قوية في القرن التاسع عشر ق.م على يد مؤسسها الأكدي إيلوشوما (2104-2088ق.م). وقد زاحمت آشور بابل وأكد أكثر من مرة، إلى أن استولت على السلطة فيها في القرن 18ق.م أسرة أمورية أسسها شمشي أدد المعاصر لحمورابي. إلا أن التوسع الآشوري الكبير بدأ في عهد تغلات بلصر الأول (1112-1074ق.م) وبلغ أوجه في القرن الثامن ق.م. وقد عاصر الآشوريين في هذه الحقبة الفلسطيون الذين استقروا في المناطق الجنوبية الغربية من سورية الطبيعية فصارت تعرف باسمهم، (فلسطين)، كما عاصرهم الكنعانيون (الفينيقيون) مبتكرو الأبجدية الذين تركزت ممالكهم على امتداد الساحل السوري، وأقاموا امبراطورية تجارية شملت أكثر بلدان حوض البحر المتوسط، وكان الآراميون في هذه الأثناء يستوطنون سورية الداخلية ويمارسون التجارة البرية مع أكثر مناطق الشرق العربي القديم، ونبغ فيهم كتّاب كبار.
مع اقتراب القرن الثامن ق.م من نهايته انفرد الآشوريون بالسلطة في المنطقة كلها فاكتسحوا الأقسام الشمالية من بلاد الرافدين، واحتلوا سورية (732ق.م) واستولوا على بابل (689ق.م). فكانت امبراطوريتهم واحدة من أكبر الامبراطوريات التي عرفتها منطقة جنوب غربي آسيا حتى ذلك الحين. وبعد وفاة آشور بانيبال (668-631 ق.م) بدأت الامبراطورية تنهار تحت ضربات الدولة البابلية الجديدة بزعامة نبو بلصر الكلداني، والدولة الميدية الناشئة بزعامة كيخسرو (633-584ق.م) الذي استولى على مدينة آشور ثم نينوى واتخذ من هذه الأخيرة عاصمة لمملكته سنة 612ق.م. وفي سنة 609ق.م استولى البابليون على حران وأزالوا مملكة آشور من خريطة العالم القديم بعد أن شغلت تاريخ المنطقة عدة قرون.
في القرن السادس ق.م سيطر الملك الفارسي قورش (559-529ق.م) على أملاك الميديين واحتل ابنه قمبيز الثاني مصر سنة 525ق.م، وبلغت مملكة فارس أوج ازدهارها الحضاري في عهد ملكها داريوس الأول (522-486ق.م). وفي عام 331ق.م اكتسح الاسكندر المقدوني أراضي الامبراطورية الفارسية وتقاسم قادته امبراطوريته من بعده، فكان القسم الآسيوي منها من نصيب السلوقيين (312-64ق.م). ولم يلبث أن ظهر الفرثيون (أو البارثيون وهم فرع من القبائل الإيرانية البدوية) على مسرح التاريخ بزعامة أحد رؤساء قبائلهم، ويدعى أرشاق، فتمكنوا من تأسيس مملكة لهم في دارا (نحو 250ق.م) ظلت خاضعة للسلوقيين أول أمرها إلى أن سنحت الفرصة للملك الفرثي ميتريداتس الأول (171-138 ق.م) فتغلب على جيوش السلوقيين وأقام الامبراطورية الفارسية الثانية في الهضبة الإيرانية وبلاد الرافدين. ودخلت هذه الامبراطورية في نزاع قاري مع الامبراطورية الرومانية بعد أن بسطت هيمنتها على مابقي من أملاك السلوقيين. سقطت الأسرة الفرثية نحو سنة 226م على يد الساسانيين، الذين أقاموا الامبراطورية الفارسية الثالثة، إلا أن النزاع استمر مع رومة ثم مع بيزنطة، بعد انقسام الامبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية عام 395م، حتى قضى الفتح العربي الإسلامي على الدولة الساسانية وحرر بلاد الشام من البيزنطيين.
كان ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية بداية عصر جديد في تاريخ منطقة جنوب غربي آسيا. وبعد هجرة الرسول محمد(ص) إلى المدينة المنورة سنة 622م ظهرت إلى الوجود دولة من طراز جديد لم يعرف من قبل، واستطاعت هذه الدولة أن تخضع كل أجزاء شبه الجزيرة العربية في أقل من عشر سنوات، وبعد وفاة الرسول(ص) عصفت بهذه الدولة فتنة الردة التي كادت تودي بها لولا أن تداركها الخليفة الراشد أبو بكر الصديق بالحكمة والشدة، والتفت بعدها إلى نشر الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية، فوجه جيوش المسلمين إلى العراق والشام. وتابع الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب ما بدأه سلفه فأكمل بناء الدولة العربية الإسلامية الموحدة التي شملت جنوب غربي آسيا كله وقضت على الدولة الساسانية وحلت محلها، في حين ظلت بيزنطة قابعة في الأناضول بعد أن تقلصت حدودها وضعفت هيمنتها البحرية على شرقي البحر المتوسط. وفي العصر الأموي (41-132هـ /661-750م) امتدت الخلافة الإسلامية حتى حدود الصين ونهر السند، وانكفأت حدود بيزنطة في آسيا الصغرى إلى الأقسام الشمالية منها، وبسط المسلمون سيطرتهم على شمالي إفريقية وأكثر أراضي إسبانية (الأندلس) واقتحموا جبال البرانس، واكتسحوا جنوبي فرنسة ومناطقها الوسطى في غزوات متكررة وغدا البحر المتوسط تحت سيطرتهم. وفي عام 132هـ/ 750م انتقلت الخلافة في بلاد الإسلام (باستثناء الأندلس) إلى الأسرة العباسية التي نقلت حاضرة الخلافة من دمشق إلى بغداد. ومع أن العباسيين ظلوا على كرسي الخلافة حتى عام 656هـ/ 1258م فقد تسببت الثورات والفتن وتمرد بعض الأسر الحاكمة المحلية في تفكك أراضي الخلافة الإسلامية منذ القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد، وأدى تسلط البويهيين والسلاجقة تباعاً على بغداد إلى تقسيم البلاد إلى إقطاعات ودويلات شبه مستقلة. وفي سنة 463هـ/ 1071م غزا السلاجقة أرمينية وأسروا الامبراطور البيزنطي رومانوس الرابع في معركة مناذكرد (ملاذكرد) واستولى بعض قادتهم على آسيا الصغرى وأقاموا لأنفسهم ممالك مستقلة فيها، وكانت خشية الأوربيين من هذه الفتوحات من أسباب الحروب الصليبية[ر] (484-691هـ/ 1091-1291م)، أما الإمارات السلجوقية في آسيا الصغرى والشام والعراق وفارس فقد أنهكت بالنزاع على السلطة فيما بينها كما أنهكها النزاع مع الفاطميين في مصر فلم تول الحركة الصليبية الاهتمام الذي تستحق، وسرعان ما أقام عدد من قادة الفرنج ممالك لهم أو إمارات لهم في إديسة (الرها) وأنطاكية وطرابلس ثم في القدس التي احتلوها عام 1099م. وفي عام 1144 استرد عماد الدين زنكي الرها، وبعد ذلك بنحو قرن استرد صلاح الدين بيت المقدس وكثيراً من المدن التي كان يحتلها الصليبيون، ولكن القضاء على الوجود الصليبي كلية لم يتيسر إلا بعد قرن من ذلك التاريخ عندما اختفت آخر مملكة للفرنج في سورية على يد سلاطين المماليك عام 1291م.
وفي عام 1220م اكتسحت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان وكبار قادته بلاد ماوراء النهر وآسيا الوسطى وفارس وتغلب خلفاؤه في عام 1243م على سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، وقضى جيش مغولي بقيادة هولاكو في عام 656هـ/ 1258م على الخلافة العباسية في بغداد. وفي عام 1380م قاد تيمورلنك موجة جديدة من الغزو المغولي التتري فاكتسح بلاد فارس والعراق والأناضول وسورية فنكبها واستباح حرماتها ونهب خيراتها، ثم ارتد إلى عاصمة سلطنته وهو يسوق أمامه الآلاف من مهرة الصناع والعلماء من البلاد المغلوبة.
جنوبي آسيا: كان وادي نهر السند الذي يعرف اليوم باسم باكستان موطن أقدم حضارة عرفتها مناطق جنوبي آسيا، وهي حضارة موقع كلّي Kulli في بلوجستان التي تطورت عن حضارة العصر الحجري القديم، وكان لها فيما يعتقد، علاقات تجارية مع بلاد سومر وأكد. ثم ظهرت بعدها حضارة الهرابّا Harappa في البنجاب وحضارة موهنجودارو Mohenjo- daro في السند التي ازدهرت فيما بين الألف الثاني والألف الأول قبل الميلاد وشملت مساحات شاسعة من مناطق جنوبي آسيا. وتشهد آثار هذه الحضارة على وجود حكومة منظمة ومدن مخططة وإنجازات مهمة.
يرى المؤرخون أن تاريخ شبه جزيرة الدكن وشمالي الهند والباكستان في مفهوم اليوم يبدأ في المدة بين 1500 و1200ق.م عندما غزتها قبائل نصف بدوية من الجنس الآري وامتزجت بشعوبها القديمة كالدرافيديين وغيرهم. وتعد أشعار «الفيدا» الأولى التي صاغها كهنة هذه القبائل مصدراً مهماً لتاريخ هذه الحقبة. كما غدت أشعار الفيدا الثلاث الأخرى والبراهمانا والأوبانيشاد والبورانا والرامايانا والمهابْهَراتا وغيرها من الآداب الدينية من التراث الهندي. وتعد قبيلة البهاراتا التي اشتق اسم الهند الحديثة منها من القبائل الآرية التي استوطنت منطقة براهمافارتا بين نهري يامونا وستلج. وأدى توسعها شرقاً في داخل الهند في هذه الحقبة إلى إقامة ممالك كوسالا (أود اليوم) وكاسي (فراناسي) وفيدها (شمال بيهار) وأفانتي (ملوي) ومغادها Magadha (جنوب بيهار). وترقت بها الحضارة تدريجياً مع العودة إلى إقامة علاقات وطيدة مع بلاد الرافدين.
وفي عهد الملك بيمبيسارا Bimbisara (نحو 543-491ق.م) وابنه آجاتا ساترو (نحو 491- 459ق.م) في «مغادها» قامت في الهند امبراطورية عظيمة شملت أكثر الممالك، وبلغت أوج اتساعها في القرن الرابع ق.م. وشهدت الهند في هذا القرن غزو الاسكندر المقدوني عام 326ق.م، الذي عبر نهر السند ونهر جيلوم وهزم ملك البنجاب بورافا Paurava بعد معركة طاحنة. وقد اضطر الاسكندر عقب ذلك إلى الارتداد إلى فارس خشية حدوث تمرد في صفوف جنده. ولم يستطع نائبه القائد أوديموس Eudemus المحافظة على الأراضي التي تم فتحها. وفي تلك الأثناء سقطت أسرة ناندا الحاكمة وتولى السلطة الملك شاندرا غوبتا من أسرة موريا (321- 297ق.م) وضم إلى مملكته ما يعرف اليوم باسم أفغانستان بعد أن هزم سلوقس نيكاتور خليفة الاسكندر الكبير. أما أعظم أباطرة الهند القديمة فهو أشوكا[ر] Asoka حفيد شاندراغوبتا الذي اعتلى العرش نحو سنة 274 ق.م. وفي عهده كانت انطلاقة البوذية وانتشارها في الهند. وبعد وفاة أشوكا سنة 237 ق.م أخذت امبراطورية الموريا تنهار وتتجزأ حتى سقطت عام 184ق.م. وأدى سقوطها إلى ظهور ممالك صغيرة لعل أشهرها مملكة «ساكا» التي حكمتها أسرة فرثية سكيثية، وأعظم ملوكها رودرادامان (130-150) Rudradaman، وقد ظلت هذه المملكة قائمة حتى سنة 388م. وفي هذه الحقبة تمكنت ممالك جنوبي الهند التي تقطنها شعوب تتكلم الدرافيدية من غزو سيلان واستعمار جنوب شرقي آسيا. وكانت لها علاقات تجارية ودبلوماسية مع مصر ورومة.
في القرن الثاني ق.م استولت قوات دولة باكتريا الهلينية (بقايا المقدونيين في شمالي أفغانستان وشرقي إيران، وكانت عاصمتهم باكترا المعروفة اليوم باسم بلخ) بقيادة القائدين ديمتريوس وأوكراتيدس على أجزاء واسعة من وادي السند والبنجاب ووادي كابل وتكسيلا، إلا أن مملكتهم سقطت في يد السكيثيين في القرن الأول ق.م. وبعد غزوة قصيرة قام بها البهلويون (الفهلويون) الإيرانيون سيطرت سلالة جديدة من الطخاريين على النصف الغربي من شمال الهند ومساحات واسعة من أواسطها عرفت باسم مملكة كوشانا Kushana، وبلغت أقصى اتساع لها في أواخر القرن الأول الميلادي. وفي عهد هذه الأسرة بدأت البوذية تنتشر خارج الهند في أواسط آسيا وشرقيها.
ظهرت أسرة غوبتا في عام 320م وامتدت أملاكها في عهد شاندرا غوبتا الأول (320-330م) وابنه سامو غوبتا (330-375/ 380م) بين إقليمي أسام والبنجاب واتخذت من ملوك راجستان والدكن الشرقية نواباً لها، واستطاع شاندرا غوبتا الثاني (375/ 380- نحو 413م) هزيمة السكيثيين (الساكا) سنة 388م وغدا الحاكم الأعلى لشمالي الهند، ومع أن الأباطرة اللاحقين تصدوا لهجمات الهون الكاسحة وصمدوا في وجهها فقد آلت امبراطورية الغوبتا إلى التفكك بعد وفاة آخر أباطرتها سكاندا غوبتا (455-467م)، ولم يلبث الهون أنفسهم أن فقدوا هويتهم بين الممالك الصغيرة الكثيرة والمتنافسة على السيادة.
وفي سنة 606م ظهرت امبراطورية جديدة في شمال الهند حاضرتها ثانِسار Thanesar وامتدت بين كاثيوار والبنغال وبلغت أوجها في عهد الملك هارشا (606-647م) وازدهرت معها الثقافة والفنون والموسيقى، ولكن البوذية بدأت تنحط في الهند في حين غدت الهندوسية العقيدة السائدة. وبعد وفاة هارشا من دون وريث استقل كل نائب من نوابه بما في يده. وفي القرون التي تلت أخذت القوى المسلمة تزداد منعة عند الحدود الشمالية الغربية للهند في حين سيطرت أسرة براتيهارا على قِنَّوْج في شمال غربي الهند، وأسرة راشتراكوتا على هضبة الدكن وأسرة بالا على البنغال وبيهار في شمال شرقي الهند.
وفي الأعوام 376 - 378 هـ/986 - 988م غزا سبكتكين الغزنوي شمال غربي الهند وقام ابنه السلطان محمود من بعده بغزو ممالك الهند الغنية بين عامي 392- 418هـ/ 1001-1027م، ولم يحاول محمود الغزنوي الاستقرار في الهند، واكتفى بضم بعض المناطق عند الحدود الشمالية الغربية. وفي عام 1175م غزا سلطان غزنة محمد الغوري الهند مجدداً واستولى على البنجاب والسند وهزم ملوك راجستان في معركة ثراوري سنة 1192م، وبعد اغتياله استقل أحد قادته قطب الدين أيبك (1206-1210م) بالهند وأعلن نفسه سلطاناً في دهلي (دلهي)، ومنذ ذلك التاريخ صار شمالي الهند خاضعاً للمسلمين، في حين كانت العناصر الدرافيدية والآرية تتنازع السيطرة على هضبة الدكن، وتقيم ممالك لها في أجزاء متفرقة منها وتمد نفوذها إلى سيلان ومينمار والملايو وسومطرة. وفي عهد السلطان علاء الدين الخلجي (1296-1316م) استولى المسلمون على معظم الدكن (1308-1313م) وامتد نفوذ السلطنات الإسلامية في الهند حتى مادورا، وفي عام 1336م تأسست في جنوبي شبه القارة الهندية مملكة هندوسية عرفت باسم فيجاياناغار، واستمرت إلى عام 1565م حين قضى عليها حلف من سلاطين الدكن المسلمين واختفت بذلك من الهند آخر ممالك الهندوس حتى ظهور المراثاويين في القرن السابع عشر.
جنوب شرقي آسيا: طغت على جنوب شرقي آسيا مؤثرات ثقافيةهندية وصينية وشرق أوسطية. وما تزال شواهدها في جيوب معزولة من تلك المناطق حيث يعيش سكان يتكلمون اللغات الملاوية ـ البولينيزية القديمة حياة بدائية وخاصة في بعض جزر إندونيسية وفي الجبال الجنوبية الشرقية من البر الرئيس وفي جزر المحيط الهادئ النائية.
كانت التجارة الطريق الرئيسة لتغلغل الثقافة الصينية في جنوب شرقي آسيا. ويبدو الأثر الصيني أشد وضوحاً في المناطق المتاخمة لحدود فييتنام ولاوس إلى اليوم، وهو أقل من ذلك في كل من مينمار وتايلند ويكاد يختفي في الأماكن الأخرى من المنطقة.
أما الثقافة الهندية فدخلت تلك المناطق على يد المستعمرين والمبشرين في الغالب ثم من التجارة في الدرجة الثانية. وقد بدأت الحملات الهندية لاستعمار جنوب شرقي آسيا منذ القرن الأول للميلاد، وأكثرها من بلاد التاميل في جنوبي الهند ومن البنغال وكالنغة. وقد أقام المستعمرون مستوطنات لهم في جاوة وسومطرة وكاليمنتان (بورنيو) وشبه جزيرة الملايو وكمبودية ومينمار وسيام (تايلند)، ونشروا ديانتهم الهندوسية ولغتهم السنسكريتية وفنونهم في النحت والعمارة والموسيقى. وبعد بضعة قرون احتلت البوذية المكانة الأولى في ديانات البلاد. وأكثر الممالك الهندية البوذية شهرة هنا هي مملكة «سْري فيغايا» Srivigaya في سومطرة، ومملكة «سايلندرا» Sailendra في جاوة ومملكة «الخمير» في كمبودية والتشام (التيام) في فييتنام. وفي القرن الثالث عشر بدأ الإسلام ينتشر بسرعة على يد التجار والرحالة حتى شمل أكثر مناطق جنوب شرقي آسيا وغدا الدين الرئيسي فيها.
شرقي آسيا: تعد المناطق الشمالية من الصين مهد الحضارات التي سادت شرقي آسيا طوال الحقب القديمة [ر. الصين]. وقد رافق ظهور الحضارة المبكرة في شمالي الصين مثيلاتها في المناطق الأخرى من جنوب غربي آسيا والهند، فسادت فيها ثقافات العصر الحجري الحديث في الألف الثالث قبل الميلاد ومنها تشكيل الفخار وممارسة الزراعة وتدجين الحيوان، وفي الألف الثاني ق.م عرفت الصين الكتابة، واستخدام البرونز، وحياة المدن، ولكنها لم تعرف الحكم المركزي الفاعل حتى القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت من قبل إقطاعات شبه مستقلة في ظل حكم اسمي لملوك أسرة شانغ (نحو 1522-1027ق.م) وأسرة تشو (1027-256ق.م). ومنذ عصر كونفوشيوس (551-479ق.م) شهدت الصين حروباً ونزاعات بين الأسر المتنفذة أدت في خاتمة المطاف إلى دمج الممالك والإقطاعات الصغيرة في دول كبيرة، ثم كانت المرحلة الثانية صراعات بين هذه الدول استمرت قرنين آخرين وتمخضت عن انتصار ساحق لدولة «تشين» Chin عام 221 ق.م وزوال بقية الدول الأخرى. وفي هذه الحقبة تزايد سكان الصين بسرعة واتسعت تجارتهم، واستخدمت النقود النحاسية والأدوات الحديدية.
أما أعظم أسرتين حكمتا الصين في الحقبة الامبراطورية فهما أسرة هان (202ق.م-220م) وأسرة تانغ (618-906م). وفي عهد أسرة تانغ حققت الصين منجزات مهمة في حقول شتى، وغدت الصين أقوى دولة مزدهرة في ذلك العصر إلى جانب دولة الخلافة الإسلامية في أيام عظمتها. وفي عهد أسرة سونغ (960-1279م) ارتقت ثقافة الصين إلى أوج ازدهارها، وبلغت تجارتها أقصى اتساعها، ولكنها ظلت محدودة القوة العسكرية، الأمر الذي مهد الطريق لظهور امبراطورية جديدة أقامها الغزاة بزعامة أسرة يوان (1260-1368) Yuan .
عاشت الصين استقراراً سياسياً أكثر من ألف عام في ظل هذه الأسر واتسعت أراضيها حتى شملت كورية وفييتنام وتركستان ومنغولية وغيرها، وقد ظل النظام الامبراطوري التقليدي سائداً فيها حتى القرن العشرين. وللصين فضل كبير على الحضارة الإنسانية بما قدمته من مبتكرات مفيدة كصناعة الورق والطباعة والبارود، كما كان لطريق الحرير الذي يجتاز آسيا براً (أسرة هان) وبحراً (أسرة سونغ) فضل تطوير العلاقات التجارية بين امبراطوريات الشرق والغرب.
وقد حققت الصين، رقماً قياسياً في عدد السكان، فكان الصينيون أكبر مجموعة عرقية تتركز في منطقة واحدة في العالم. وانفردت الصين بمجتمع متجانس دينياً وأدبياً وثقافياً. كما تأثر الصينيون بثقافات الفاتحين وتمثلوها. وغدت الفلسفة الكونفوشيوسية مصدر الإلهام الثقافي والحكمة، وأدت الروح المحافظة إلى جعل الصين تعيش عزلة نسبية أخرتها عن مواكبة التطور العلمي والتقني في الغرب.
كذلك فرضت العوامل الجغرافية على الجزر اليابانية نوعاً من العزلة بسبب انفصالها عن البر الرئيسي، وكان اليابانيون عشائر وقبائل متفرقة مكتفية ذاتياً، وتخضع لزعامات تقوم على الإرث. وقد تعاظمت قوة المجموعة الرئيسة منها في منطقة ياماتو، وغدا زعيمها سيد شعب ياماتو ورأس النظام الامبراطوري الذي يحكم البلاد، وهو على هذا النحو من أقدم الأسر الحاكمة في اليابان.
ويبدو التأثير الثقافي الصيني جلياً في اليابان، إذ يمكن تتبع ملامحه الأولى منذ ما قبل التاريخ، وقد اقتبست اليابان من الصين كل عناصرها الحضارية من زراعة الأرز إلى استعمال البرونز والحديد إلى الكتابة والأدب والفن والدين (البوذية). واستعارت اليابان الثقافة الصينية طوعاً، وراحت تهضمها وتعدل فيها. ومع أن الكتابة الصينية اقتصرت على ذوي الشرف في اليابان فقد ابتكر اليابانيون منظومة كتابة قومية بأسلوب المقاطع عرفت باسم «كانا» Kana تنسجم مع طريقة اللفظ اليابانية، وارتقى الأدب الياباني بمعاييره في القرن الحادي عشر إلى مستوى الأدب الصيني الذي واكبه، كما نجح المصورون والنحاتون اليابانيون ومهندسو العمارة في اتقان الأسلوب الصيني. ومع أن البوذية المتطورة سادت البلاد فقد ظلت ديانة الشنتو Shinto طقساً وطنياً. كذلك ابتعد اليابانيون في مؤسساتهم السياسية والاقتصادية كثيراً عن النموذج الصيني الذي حاولوا تقليده، ولم تستطع سياسة التايكوا (الإصلاح العظيم) لفرض الحكم المركزي وفق النموذج الصيني أن تمد جذورها في جزر اليابان، إذ دخلت البيروقراطية الصينية التي تقوم على الاختبارات التنافسية في صراع مع التقليد الأرستقراطي الياباني القائم على الوراثة، وعادت القوى المحلية إلى إثبات وجودها بعد انحطاط السلطة المركزية، وظهرت في اليابان في منتصف القرن العاشر دويلات كثيرة تتمتع بامتيازات وباستقلال شبه تام وتسليح مستقل، مع اعترافها اسمياً بالحكومة الامبراطورية. وتوج تمرد هذه الدويلات وحروبها فيما بينها بارتقاء عشيرة ميناموتو Minamoto إلى سدة الزعامة العسكرية في القرن الثاني عشر ممثلة بنظام «الشوغون» Shogonate المدعوم بالإقطاع، وقد ظل هذا النظام قائماً حتى القرن التاسع عشر. وكانت حكومة الشوغون هي التي تحكم بوجود الحكومة المدنية التي يرأسها الامبراطور. أما الإقطاعية اليابانية فيمثلها الدايميو Daimyo (طبقة الإقطاعيين الكبار) والساموراي (طبقة المحاربين) ويعد هؤلاء نواباً أو نواب نواب للشوغون وليس للامبراطور. وقد عرفت اليابان ثلاث شوغونيات متعاقبة اشتهرت أولاها باسم كاماكورا، نسبة إلى عاصمتها، وتزعمتها أسرة ميناموتو (1192- 1333م)، كما سادت طبقة الساموراي أكثر من 700 عام وأعطت اليابان ملامحها العامة.
أما كورية فقد ظلت مقسمة سياسياً إلى منتصف القرن السابع للميلاد، وظلت الصين تستعمر المناطق الشمالية الغربية منها نحو أربعة قرون (108 ق.م -313م). ومنذ أواسط القرن الرابع وحتى القرن السادس أقام مستوطنون يابانيون معاقل لهم على طول الساحل الجنوبي لكورية. وظهرت في أثناء ذلك وبعده ثلاث ممالك كورية وطنية متعاقبة نجحت إحداها، هي مملكة سيلاّ Silla، بتوحيد البلاد سنة 668م بمساعدة الصين، ومع تبدل البيت الحاكم أكثر من مرة ظلت كورية موحدة، فحلت أسرة «كوريو» Koryo محل أسرة سيلاّ سنة 935م واستمر حكمها إلى سنة 1392م حين خضعت لأباطرة المغول.
تقوم بين الكوريين واليابانيين قرابة لغوية وعرقية، وهم أقرب إلى الشعوب المغولية منهم إلى الصينيين،وكان الكوريون واليابانيون قد ألفوا حياة الزراعة في وقت مبكر وتأثروا بالحضارة الصينية، واقتبست كورية الديانة البوذية والفلسفة الكونفوشيوسية من الصين، كما تبنت الكتابة والأدب والفن والتشريع ونظام الحكم، وكان للكوريين أثر في إغناء الثقافة اليابانية، وإن لم يمهروا في نقل هذه الثقافة أو تكييفها وفق أوضاعهم القومية.
المناطق الداخلية من آسيا: تحتل هذه المناطق تجمعات مغولية تركية انساحت تاريخياً وسط منغولية وتركستان[ر]. وتختلف البيئة الطبيعية لهذه الشعوب عن جيرانها في الصين والهند وإيران وروسية، كما يختلف أسلوب معاشها وتراثها، وكان لها دور متوسط بين تلك الشعوب في السلم والحرب، كما كانت مناطقها محاور اتصال بين الأقاليم المكتظة بالسكان والمتباعدة بعضها عن بعض في الأزمنة القديمة والقرون الوسطى.
يعيش أكثر شعوب آسيا الداخلية حياة البداوة. ولم تكن أعدادها كبيرة في يوم من الأيام، إلا أن أفرادها محاربون أشداء يرهب جانبهم مهروا في ركوب الخيل، وكان ضغط الجفاف والجوع المتواترين يدفعهم دائماً إلى الإغارة على جيرانهم. وكانت فارس والهند والصين أكثر البلاد شعوراً بوطأة هؤلاء. كما عانت أوربة نفسها غزوات كبيرة في أوائل القرون الوسطى من أقوام بداة قدموا أساساً من مناطق آسيا الداخلية كالهون وغيرهم. وقد بلغت هذه الغزوات ذروتها في القرن الثالث عشر عندما أقام جنكيز خان وخلفاؤه أكبر امبراطورية عرفها التاريخ، وظلت سيدة المسرح أكثر من قرن. ومع أن المغول مهروا في الغزو والإدارة، فإنهم لم يتركوا أي أثر حضاري ذي شأن بعد أن ارتدوا إلى سهوبهم وصحاريهم القاحلة.
ظلت التبت منطقة اكتفاء ذاتي زمناً طويلاً، وقد حدّت الحواجز الطبيعية من تطورها سكانياً ومن اتصالها بالعالم الخارجي، كما حالت دون قيام اتصال مباشر بين الصين والهند. ولم يكن لسكان التبت خطر ذو شأن على جوارهم كما كان للشعوب المغولية التركية. ولم تظهر في التبت أي مملكة حتى القرن السابع، واضطهدت البوذية التي دخلتها في ذلك الحين، إلا أنها عادت إلى الظهور في القرن الثامن وانتقلت منها إلى منغولية في القرن الثالث عشر. وترافقت البوذية مع العبادة الشامانية المحلية.
آسيا بين عامي 1350 و1850
شهدت آسيا تغيرات كثيرة في تركيبها السياسي بعد تفكك امبراطورية المغول في القرن الرابع عشر، وازدهرت في القرون التي تلت امبراطوريات وممالك قوية في بعض أجزاء القارة، وقد وفرت الوحدة السياسية لمناطق شاسعة عمليات التجارة والتنقل، وفتحت المجال أمام المغامرين والتجار والمبشرين الأوربيين والمستعمرين بعد أن عرف البرتغاليون الطريق إلى الهند وقنع التجار الأوربيون في بادئ الأمر بما أتيح لهم من حظوظ بالشروط التي فرضتها الدول المحلية. إلا أن تبدلاً جذرياً طرأ على العلاقات بين أوربة وآسيا حين حصل الأوربيون على مصادر قوية جديدة مكنتهم من فرض هيمنة مباشرة على شؤون آسيا. وقد سهل انهيار الامبراطوريات الآسيوية الكبرى سيطرة الأوربيين على أكثر أجزائها. وبعد منتصف القرن التاسع عشر صار الغرب المالك الحقيقي لثروات القسم الأكبر من مصادر الشرق.
جنوب غربي آسيا: كانت دول جنوب غربي آسيا من بيزنطية وعربية وتركية سلجوقية وفارسية ومملوكية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر منهكة بالحروب فيما بينها والصراعات الداخلية فيها، كما عانت غزوات الفرنجة الصليبيين والمغول والتتار، وظل حالها على هذا النحو إلى أن تحقق النصر النهائي للأتراك العثمانيين فهيمنوا على الواقع السياسي لهذه المناطق أربعة قرون. وكان أهمَّ انتصار لهم استيلاؤهم على القسطنطينية سنة 757هـ/ 1453م، ثم راحوا يتوسعون شمالاً في السهوب الجنوبية لروسية، وشرقاً حتى حدود المملكة الصفوية الفارسية، وجنوباً حتى مصر والمغرب العربي حتى المحيط الأطلسي، واكتسحوا أقاليم البلقان كلها، ووصلت جيوشهم إلى أواسط أوربة، ولم يكن يزاحم السلطنة العثمانية في أوج قوتها سوى سلطنة المغول العظام في الهند وأسرة تشينغ في الصين.
تقلص ميل العثمانيين إلى التوسع منذ القرن الثامن عشر وبدأت تظهر عند حدودهم دول فتية زاحمتهم وناصبتهم العداء، وكان ضغط روسية وامبراطورية النمسة والمجر على العثمانيين في البلقان مميزاً. كما واجه العثمانيون ثورات وتمرداً في مناطق أخرى، ولا سيما في المغرب العربي ومصر، وبدأت السلطنة العثمانية تسير في طريق الانهيار منذ القرن التاسع عشر حتى أطلق عليها الغربيون اسم «الرجل المريض في الشرق» [ر. العثمانيون].
جنوبي آسيا: مع حلول القرن السادس عشر كانت السلطة المسلمة قد رسخت أقدامها في أجزاء واسعة من شمالي الهند واستقرت في وسطها أيضاً بعد التوسع المغولي التركي على يد أسرة السلاطين التيموريين (المغول العظام) التي أسسها بابر[ر] (1526-1530م) فتوحد شبه القارة الهندي تحت سلطانهم. ومن أشهر سلاطينهم السلطان أكبر[ر] (1556-1605) والسلطان شاه جهان[ر] (1628-1658م) وابنه السلطان أورنغ زيب[ر] (1658-1707م) الذي بلغت السلطنة في عهده أوج قوتها وازدهارها ثم تفككت أوصالها بعد وفاته. وفي القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر بدأت تظهر على المسرح قوى منافسة شديدة البأس تمثلت في المراثاويين الهندوس في غربي الدكن، والسيخ القريبين من الهندوس الموحدين في الشمال الغربي، إضافة إلى الأسر الحاكمة المسلمة التي ظلت قائمة في عهد السلطنة. وزاد في حدة هذه الصراعات تدخل الإنكليز والفرنسيين في القرن السابع عشر بقصد التجارة. وفي أواخر القرن الثامن عشر استطاعت شركة الهند الشرقية البريطانية إثبات وجودها الاستعماري في الهند، وبعد ثورة السباهية، وإلغاء السلطنة المغولية (1858م)، غدت بريطانية العظمى تحكم الهند حكماً مباشراً.
أما أفغانستان فلم تعرف الاستقرار منذ العهد المغولي وكانت، لموقعها الاستراتيجي، تتعرض دائماً للغزو الخارجي. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ظهرت في أفغانستان أسرات حاكمة محلية وفارسية متنافسة، ثم آل الأمر إلى تنافس بريطانية العظمى وروسية القيصرية لبسط سيطرتهما على البلاد بدءاً من عام 1830م.
لحق المد الاستعماري الأوربي بالمناطق الأخرى المتاخمة لجنوبي آسيا سياسياً وعسكرياً. فقد تعرضت أجزاء من جزيرة سيلان للغزو البرتغالي (1505-1658) واحتل الهولنديون أجزاء أخرى منها (1638-1796)، ثم غدت سيلان كلها خاضعة للتاج البريطاني في أثناء حروب نابليون، وكان من نتيجة ازدياد الهيمنة البريطانية خضوع كل من نيبال (1816) وسيكيم (1817) وبهوتان (1865 ثم 1910).
جنوب شرقي آسيا: ظل جنوب شرقي آسيا خلواً من أية قوة سياسية ذات شأن حتى القرن الثالث للميلاد حين قامت مملكة الخمير فيما يعرف اليوم باسم كمبودية، وظلت شعوب المنطقة تعيش حضارة العصر الحجري الحديث مع تأثرها بالهندوكية والبوذية والكونفوشيوسية. ومع دخول الإسلام وانتشاره حدث تبدل في حياة شعوب المنطقة. وفي أواخر القرن الثالث عشر ظهرت في جاوة امبراطورية الماجابهيت (1293-1530م) على أنقاض مملكة سْري فيغايا القديمة (ق7-13م) وخضعت لها أكثر جزر الأرخبيل الإندونيسي، ثم تفككت إلى إمارات مستقلة. كذلك نهضت بعض الممالك النشطة في مينمار وسيام وفييتنام.
بدأ الأوربيون يتوافدون إلى جنوب شرقي آسيا منذ أوائل القرن السادس عشر. فاستقر البرتغاليون في ملقة منذ عام 1511م، واصطدموا بمقاومة شديدة من السكان المسلمين. وجاء الهولنديون والإنكليز إلى المنطقة في أواخر القرن السادس عشر. وتمكنت شركة الهند الشرقية الهولندية في جاوة سنة 1602 من فرض هيمنتها على كل جزر الأرخبيل الإندونيسي. وغزا الإسبان الفيليبين سنة .1565 وفي سنة 1819 صار للبريطانيين موطئ قدم في جنوب شرقي آسيا عندما اشترى توماس ستامفورد رافلز جزيرة سنغافورة من سلطان جوهور. ولم تلبث ممالك شبه جزيرة الملايو وإماراتها أن دخلت فلك الحماية البريطانية، كما احتلت بريطانية بورمة. ومع حلول عام 1860 كانت سيام والدول الخمس التي عرفت باسم الهند الصينية (تونكين وأنام وكوشنشين ولاوس وكمبودية) قد خضعت للسيطرة الفرنسية.
حصار قلعة أوسكا عام 1615 استطاعت شوغونية إياسو توكاغاوا تدمير آخر أسر هايديوشي في اليابان
شرقي آسيا: يعد سقوط السلالة الحاكمة المغولية في الصين وقيام أسرة منغ (1365-1644) من الحوادث المهمة في تاريخ الصين، إذ نجحت في توحيد أكثر أجزاء البلاد، ومد نفوذها إلى كورية وتنمية تجارتها مع اليابان. واتجهت أنظار ملوكها إلى توسيع حدودهم البحرية. ففي النصف الأول من القرن الخامس عشر أرسلت الصين حملات بحرية كبيرة إلى جنوب شرقي آسيا وجنوبيها لغرض التجارة وللضغط على الحكام المحليين في تلك المناطق. وبعد أقل من قرن وصل التجار البرتغاليون إلى البر الصيني، وسمح لهم عام 1557م بإقامة مركز تجاري في «مكاو». ومع اقتراب القرن السادس عشر من نهايته بدأت أسرة منغ تعاني حالة الاحتضار، وأنهكتها الحرب مع اليابان التي غزت كورية (1592-1598م)، وأدى ضغط حلف قبائل منشو والمغول إلى سقوط حكم أسرة منغ وتأسيس حكم أسرة تشنغ (1644-1912م) التي عدت حتى القرن الثامن عشر من أقوى دول العالم وأكثرها تطوراً. فمدت نفوذها إلى شرقي آسيا وجنوب شرقيها وإلى التبت وتركستان الصينية. وفرضت شروطها على الشركات التجارية الأوربية. وقد حرص حكام هذه الأسرة على التعاون الوثيق مع البيروقراطية الصينية التقليدية، وكان نجاح نظامهم الذي فرضوه مدهشاً وبلغ الأوج في عهد الامبراطور تشين لونغ (1736-1796م)، ثم بدأ ينهار بسرعة تحت ضغط الانفجار السكاني وانتشار الفساد، وكان من نتائج ذلك اضطراب الأحوال وتمرد الفلاحين في أواسط القرن التاسع عشر، وزاد في تفاقم المسألة التدخل الاستعماري الغربي، ولاسيما البريطاني، الذي بلغ ذروته في حرب الأفيون[ر] (1839-1842).
أما اليابان فقد خضعت من عام 1192 حتى عام 1867 لحكم شوغونيات من أسر مختلفة. وساعد التوسع في الأملاك الزراعية والتجارة المحلية والخارجية مع تطبيق النظام النقدي في زيادة نفوذ الإقطاعيين ملاك الأراضي (الدايميو) حتى غدا الأباطرة والشوغونات أنفسهم بلا حول ولا قوة. ولكن الحروب الضارية التي دارت بين هؤلاء في أواخر القرن السادس عشر للميلاد مكنت الشوغونات من إعادة فرض سلطانهم تدريجياً حتى استقام الأمر تماماً لشوغونية توكاغاوا (1603-1867) Tokagawa التي أسسها إياسو توكاغاوا.
تبنى الشوغونات سياسة العزلة الوطنية من أجل التحكم بالتبدلات الاجتماعية الحادثة والحيلولة دون وقوع صدامات بين الإقطاعيين، فمنع الأجانب من دخول اليابان ومنع اليابانيون من مغادرة الجزر، وأدت هذه السياسة إلى تدهور الوضع الاقتصادي والتدخل العسكري الغربي (1851- 1853) ونهاية سلطة الشوغون (1867) وعودة الامبراطور إلى تسلم زمام السلطة. ويعد عهد الامبراطور ميجي (1868-1912)Mheiji نقطة تحول كبرى في تاريخ اليابان الحديث.
أما كورية فدخلت في عهد أسرة يي نازلا (1392-1910) مرحلة انحطاط طويلة الأمد بعد حقبة بلغت فيها أوج ازدهارها وحضارتها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد شهدت كورية في هذين القرنين نمو التجارة الخارجية المنظمة مع الصين واليابان وجنوب شرقي آسيا، كما شهدت إنجازات رائعة في ميادين الكتابة والفن والتقنية. ولكن غزوات اليابان الشديدة الوطء وظهور أسرة منشو في الصين ومنافسة التجار البرتغاليين والهولنديين كانت لها آثار مدمرة، فتبنت كورية منذ أوائل القرن السابع عشر سياسة العزلة القومية، وتحولت إلى مملكة نساك، مع المحافظة على خضوعها التقليدي لأسرة منشو في الصين، وابتعدت البلاد تدريجياً عن الاتصال الاقتصادي أو الثقافي مع العالم الخارجي حتى أصابها الجمود التام.
آسيا الداخلية: بدأت امبراطورية المغول بالتفكك منذ مطلع القرن الرابع عشر، فتجزأت إلى دويلات كثيرة. ومع انهيار الأمن والنظام في غياب الخانات العظام ضعفت التجارة.
وقد أبقى تجزؤ امبراطورية المغول على بعض نقاط القوة في أواسط آسيا وفي سهوب جنوبي روسية وجنوب غربي سيبرية ممثلة بخانات القبيل الذهبي Golden hord، وظل الأمر على حاله حتى أواخر القرن الخامس عشر، عندما سقط هؤلاء الخانات أمام قوة روسية الصاعدة وقوة الأتراك العثمانيين. وفي المناطق الواقعة إلى شمال غربي الهند انساحت جيوش تيمورلنك (1380-1405) لتعيد سلطة المغول ـ التتار مدة وجيزة، بين جبال تيان شان في الشرق والبحر المتوسط في الغرب، ثم تفككت من جديد إلى خانات كثيرة متنازعة. وأدت سلطة الدلاي لاما المتزايدة في التبت إلى توحيد المناطق الجبلية المتاخمة لآسيا الداخلية، واستطاع خانات منغولية وتركستان مقاومة جهود أسرة منغ الرامية إلى ضم المنطقة لمدة زادت على مئة عام. وفي القرن السابع عشر بدأت شعوب آسيا الداخلية تفقد استقلالها تدريجياً، فتمكنت أسرة تشنغ من مد سيطرتها إلى داخل منغولية وتركستان الصينية والتبت، واستطاعت روسية القيصرية دفع حدودها حتى سواحل المحيط الهادئ في الشمال الشرقي وحتى نهر آمور وجبال تيان شان. واستطاع البريطانيون مد نفوذهم إلى أفغانستان على أطراف شبه القارة الهندية في مواجهة التوسع الروسي في القرن التاسع عشر.